Friday, April 29, 2016

ثلاثتنا وعول
كنا ثلاثة موظفين نقيم في سكن حكومي ، أعني ذلك المبنى المطلي باللون الأصفر ذي الشكل المقبب وليس كبقية البيوت هنا . هبطنا إلى هذه الصحراء في أيام تعييننا الأولى . لم يكن الفارق الزمني بين مجيئنا كبيرا، فقط شهور قليلة جدا وبمعنى أصح ، أتينا في الموسم المطير نفسه الذي ماتت فيه ثلاث نعجات لفضل ود التايه، وانهار فيه السور الأمامي للوحدة الصحية بكامله ، وأنجبت فيه الرَّضينة ابنتهاالثالثة في حين كان زوجها ينتظره مولودا ذكراً يسر القلب كما كان يردد .
في باحة ذلك البيت الريفي جلسنا تحفنا رائحة البن المغلي : طبيب الوحدة الصحية .. زكريا يس ، ذلك الرجل الأعزب ، القصير ككل جدران المنازل من حولنا ! ، ناتئ عظام الوجه مثل حزننا الذي لا نعرف له سببا غير أننا قد ولدنا محزونون !.. الصادق خلف موظف الحجر البطري ، ذلك المحجر الذي يبعد عن القرية مسافة ..... ! قل أربعة أحزاب ونصف الحزب من القرآن الكريم . هكذا كانو تقاس المسافات هنا ، بالسور والآيات ، وكم نجمة يقرأ أحدهم ليصل إلى  " حوّاَشته "، أمَّا الصادق خلف فلم يكن يجيد حتى  قرآءة الفاتحة في تلك المرة الوحيدة التي رأيته يصلي فيها ! .. وأخيرا أستاذ النور طورجي ، أنا ، مدرس اللغة العربية بالمدرسة الثانوية والمصاب بتقرحات المعدة والإثنى عشر ، بينما يصر زكريا يس على أنها مجرد حموضة زائدة في إفرازاتالمعدة أدت إلى إلتهاب أسفل المريئ . لم تكن تشغلني هذه الآلام كثيراً بقدر تلك الحبة البغيضة التي ظهرت عل وجهي بالقرب من الحاجب الأيمن ، خاصة تلك اللزوجة الدهنية التي تطفح بها !
كان هناك شخصاً رابعاً ينضم إلينا في كل مساء ، أقصد يتحلق معنا حول صينية القهوة المعدة بعناية تامة ، إنها امرأة فتية ، مكتنزة ، مستديرة ، .... ، ولنقل عنها ما شئنا من تلك الصفات الجسدية البحتة ،فقد كانت خليطاً عجيباً لكا القياسات الجمالية البائدة ، تلك التي فقدت قدرتها على الإيحاء تماماً !! ..
وحده الصادق خلف من كانت تروق له بنت المجرابي هذه ، ولم يمن يعنيني أنا وزكريا يس غير حبات الودع التي تصرها في طرف ثوبها ، هذه الحبات التي تذفها على الرمل الأبيض ، تظل أعيننا معلقة بالأشكال والأوضاع التي تتخذها الحبات الست . تضع بنت المجرابي يدها اليسرى على خصرها عادة ؛ فيرتفع الثوب عن صدر عظيم تلعقه نظرات الصادق خلف النهمة تاركاً الودعات مشدوهة ، بينما تشير بيدها اليمنى نحو حبات الودع !. ودعة ودعة كانت تقرأ مقبل أيامنا وتقول : الودعة المنكفئة على جنبها، المتوجهة تلقاءك يا دكتور زكريا أنثى شابة ، امرأة فاتنة وخصبة جداً كذلك ، انتبه لها ، .. أو إلى نفسك ، إنها مستلقية ، مستلقية يا سيدي !
يزفر زكريا يس ، طبيب الوحدة الصحية ، يضحك الصادق خلف موظف الحجر البطري و لا أحرك أنا ساكناً . تحرك هي أصبعها نحو ودعتين متقابلتين بالرأس وتقول : لقاء ما وشيك جداً بينك وبين صديق قديم ، أنه آتيك بخبر ما ، الخبر لا يظهر لي جلياً . ترفع بني المجرابي رأسها وترمقني بنظرة حائرة لا أفهم منها سوى أنني المقصود .
جاء دور الصادق خلف لتتنبأ له بعض الأوهام ، أو لتبثه بعض الأمل فقد كان ينتظر بصبر ذلك اليوم الذي ستبشره فيه وتقول : إن َّ حظك العاثر الذي رمى بك في هذه البقعة السحية من الأرض سيبتسم لك أخيراً ، ستغادر في نقلية عاجلة إلى ذلك المحجر الحدودي الضخم حيث الخمور المستوردة المهربة داخل الحاويات المتكدسة ، نبيذ من كل حدب وصوب ، من كل طعم ولون ، بدلاً عن هذا العرقي النتن ، الحارق و الذي قد مزَّق كبده . وكذلك سيُحظى بنساء الحبش اللاتي يشتهي ويقول : إنهن بكل صنوف العُربِ والعُجْمِ، ناهيك عن هذه القاطرة المسماة " ببنت المجرابي " ! .. والتي قد دمًّرت أُنوثتها المبعثرة تلك الذكورة المفترضة للصادق خلف ، أو المفرطة كما كان يقول هو !! فقد كان يشكو العرقي وبنت المجرابيلطوب الأرض ويهمس سراً : " قطعوا قلبي .. ربنا يقطع دابرهم ..
جعلت له كل الودعات المتبقية متناثرة على الرمل إذن ، أخذت تقرأ له في غير عجالة ورائحة البن المغلي ورشفات القهوة وطقطقة الجمر تزيد من إيقاع الجلسة . فرغت من تفاهاتها هاتيك تماماً دون أن ترسل الصادق خلف عبر أوهامها إلى سفر يتوق له ، كيف وقد كانت تجد فيه رجلاً لا يشق له سرير !!
كثيرا ما سألت عن بنت المجرابي ، قيل لي إنها منى نساء الغجر الذين كانوا يمرون في الماضي عبر هذه النواحي في طريقهم نحو الشمال ، هناك عند ضفة النهر حيث يعرضون بضائعهم الرخيصة على الفلاحين والرعاة . تركوا بنت المجرابي مع أمها التي كانت قد مرضت فجأة وغادروا من دونها . كانت تلك آخر مرة عبر فيها الغجر هذه النواحي . .. رُويَ إنهم قد عبروا الحدود في رحلتهم الاخيرة تلك واستقروا أقصى الشمال الشرقي . ماتت أم بنت المجرابي بعد فترة قصيرة وتركتها وحيدة ، فاتنة ، شابة مترعة بالحيوية . وهناك يقول بعدم صحة هذه الرواية ويقسم على أنها بنت حرام ! . كانت أمها أفضل من تصنع العرقي على طول البر الشرقي للنيل ، تنتقل مع التجار على ظهور الحمير والبغال لبيع العرقي في رحلات قالوا أنها لم تكن بريئة تماماً ... !!
كانت براعتها في قراءة حبات الودع وقدرتها الهائلة على غيهامنا بصحة خرافاتها وترهاتها هذه تجعلني أميل إلى تصديق أنها غجرية فعلاً ، وحدهم الغجر من يجيدون مثل هذه الألاعيب . أمَّا ذلك العرقي المميت الذي كانت تصنعه خصيصاً للصادق خهلف برائحة نفاذة تدل على جودة الصنعة يجعلني لا أُكذب من يقسمون على أنها بنت حرام !
سال البن متدفقاً على الجمر ؛ فتناثرقليلاً من الرماد في الهوا ء. لم يعد لدينا أيَّةرغبة في رشفات أُخر أو ف يجولة ثانية مع ودعات بنت المجرابي . عدت إلى غرفتي ، أقصد غرفتنا أنا و زكريا يس ، بينما رفيقنا الصادق خلف يستمتع بالغرفة الأُخرى وحده ، وإن شئت الدقة فقل مع بنت المجرابي حيث ينغمس في فوضاه الخلاقة تلك ، كما كان يسميها ، . من حولي رزم الدفاتر وزكريا يس جالس على كرسيه المتأرجح الذي لم يفارقه منذ كان يقيم في سكن الطلاب . ينشر دخان سجارته مُتأملاً سحابة رمادية تشكَّلت صاعدةً نحو السقف ، والصادق خلف قد أفرغ لتوه أكثر من زجاجة وكرع كل العرقي في اتظار بنت المجرابي التي كانت تغتسل وتنشر ذلك العطر البلدي على جسدها ؛ ليبدءان لعبة جديدة ، ليست على الرمل ولا بحبات الودع هذه المرة .... وبنت المجرابي فرس عريٌّ وجامحٌ كعادتها .. !
زكريا يس داخل الوحدة الصحية يقوم بفحص نساء قد قسم الحمل ظهورهن وأنهك أجسادهن الهذيلة ، الصادق خلف يلعن كل الماشية ويوقع لها شهادات الموت على عجل . وبنت المجرابي لم أعلم يوماً متى تغادر على وجه الدقة رغم الصرير المزعج الذي يصدره الباب ، وكأنها الريح .. . أمَا أنا فداخل الفصل وقاعة الدرس هي ذات الجدران المتهالكة . يطرق أحدهم الباب ، كان موظف البريد والبرق . الورقة بيضاء تماماً ! ، ماهذا العبث ؟ لا بل كان هناك بعض الحبر في الأسفل ، جملة يتيمة ، ضحكت بصوت لم يخرج ، فزع الموظف المسكين على ما أذكر. قلت : لا تتعجب يا هذا ، حبيبتي ستتزوج !! . كانت السماء تدور من فوقي وشيئ قميئ وقاسي يتصاعد في داخلي ، استقبل الجدار وأُخرج كل مافي جوفي دفعة واحدة ، الآن خمد البركان بعض الشيئ ، أسير خارجاً من المدرسة نحو السكن مباشرة ، أرتمي على السرير ورزم الدفاتر من حولي متناثرة من الأمس .. . زكريا يس لم ينتهي من فحص النساء بعد والصادق خلف يوقع مزيداً من شهادات الموت لتلك القطعان التي أجد لأول مرة أني صرت مثلها ، فقط مذبوح بمدية أخرى !! ، رفقاً بنا يا صديقي . " لقد سُرقت حبيبتي ، العاقبة عندكم " ، من أين أتت هذه العبارة الآن ؟  آه .. لقد أتت من " باب الحياة " ، إنها لـ " خالد عبد الله الحاج " ..   رائع يا خالد ! لماذا لا أُجرب وصفة " السبيرت " . انْدَفِعُ نحو غرفة الصادق خلف حيث زجاجات المشروب السحري ، إنها بنت المجرابي تتوسد ذراعها ، متمددة ككائن خرافي ،       لا يهم .. أين تلك الزجاجات المدهشة ؟ .. سأجدها مُخبأة تحت السرير بلا شك .. أحمل واحدة ، لا لن تكفي لإسكات كل هذا الضجيج الذي يعبث برأسي .. مدهش يا خالد !! عفواً مدهش
أيها العرقي ، بل أنتما مدهشان معاً .. وبنت المجرابي أين كانت تخبئ كل هذا النزق ؟ يجب أن أكرعها هي أيضاً ، ستشكل مزيجاً مذهلاً مع هذا العرقي الحارق ، أنت الآن على حق تماماً الصدق خلف ، كرعتها كلها حتى آخر رعشة ممكنة .. ندية ومدهشة كانت .. رائع يا خالد !! رائع !! رائع أيها العرقي .. مدهشة أنتِ يا بنت المجرابي ومدهش أنا ايضا ً ، وهذا الإنتقام الذكوري الخالص أسدني جداً ..
الآن ... زكريا يس مازال أعزباً يفحص النساء الحوامل على خجل ، الصادق خلف موظف الحجر البطري يستمتع بفتياة الحبش والكحول المستورد عالى النقاء عند المحجر الحدودي ناحية الشرق ، بينما العرقي البغيض وبنت المجرابي قد أهلكاني تماماً أنا ، النور طورجي مدرس اللغة العربية بالمدرسة الثانوية ، سابقـــاً ! .


No comments:

Post a Comment