Sunday, September 19, 2010

ولد شوتال الفقر

ولد شوتال الفقر
قالت له بصوت آمر ورثته عن أهلها  سكان الصحراء : عليك أن تبني لي بيتا  ، لك وللصغار الذين سيأتون ، فلتنحته ولو على الجبال لا على تخوم السراب كعادتك دوماً ! .. ثم رحلت بعيدا جداً . وقتها لم يكن يملك غير بضع حبات من الحنطة يختلس النمل منها حبة .. ، حبة ... ، حبة كل صباح ، وطاولة مستديرة عليها الكثير من الصلصال و إزميل ومشروع نصب لطائر جديد كان ينوي أن ينحته في هذا النهار قبل أن ياتيه صةتها حاملاً كل اللعنات التي قيلت في تاريخ  البشرية دفعة واحدة . ودّ لوكان باستطاعته ان يسكتها باحد تلك الالفاظ التي كان سمعها من أخيه الأصغر أو أن يقطع لسانها من حده بآلة غير حادة ! ولكنه لم يفعل أو يقل كلمة واحدة .
زواج .... زواج ... زواج ، تلك هي الكلمة التي باتت أكثر ترديدا على لسان جميع من في البيت منذ أفتت الجدة قائلة لأبيه : إذا اردت أن ينصلح حاله المائل هذا وتخرجه من هذا  الطين الذي يعكف عليه ساعات وساعات وساعات ؛ ليحيله طيورا وطيورا وطيورا ، طينا متوحدا مع جسده فزوِّجه عند قدوم الخريف !!
ذلك هو ولد شوتال الفقر أو إذا شئت الدقة فقل إن هذا هو الإسم الذي عرف به هنالك عند الضفة الشرقية للنيل . قيل إنه بإدمان من لا يدي كان يأكل الطين ، اقصد ذلك الطين الأسود اللزج . يأكله منذ أن تبتل الأرض بقطرات المطر الأولى إلى عند آخر قطرة قبل الجفاف . كانت الجدة ترقُبُه وتترصده وتعاقبه كذلك كلَّما وجدت بقايا الطين محشورة بين أسنانه ، تمسك رأسه بيد وتفتح فمه باليد الأُخرى بينما وسطه عالق بين رجليها العظيمتين ، ضاغطة عليه بشدة حتى لا ينسل راكضا وهاربا من عقابها المحتم ، تأمره أن يفتح فمه عن آخر اتساعه، أن يرفع لسانه لأعلى , يحركه ذات اليمين ، ثم ذات اليسار ، وما ان تلمح ذلك الشيئ الأسود الكريه كما تصفه هي ؛ حتى تصفعه بقوة وهي تضغط على أسنانها التي أكلها الدود كما كان يقول ولد شوتال الفقر ويصر ويقسم أن أسنان الجدة لم تتآكل بفع لالسوس كما كان الجميع يعتقد ، بل أكلها الدود . ويصر على أن ذلك كان بايعذ منه ، وأن دود الأرض كلها في انتظار الجدة تحت ........ تحت الأرض ! . كل أفاعيل الجدة لم تثنيه عن أكل الطين بل صار يصنعه أشكالا ً على هيئة حلوى أحياناً وخبز وقطع سكر مستطيلة ؛ ليصبح أشهى ويلتهمه ملونا أحينا بما يعصره من أوراق الشجر حيث تعمه رائحة الكلوروفيل !
كنا نجلس أما كونه الهائل الضخامة ، أقصد كان يجلس هو أمام حامل قد شدًّ عليه قطعة قماش بيضاء وحوله الكثير من الطيور قبل أن أجيئ أنا . قال : من هناك ؟ . لم يأته الرد ولم يكن بوسعه أن يرى ما خلف  اللوحة دون أن يلتفت عن ألوانه قليلاً ، ففعل . قال بشيء من الضجر وهو يعاود تحريك الفرشاة على قالب الألوان الممزوجة : قل ما تريد ثم عد إلى حيث كنت ،لا تنتظر مني رداً أو كلمة أو تعليقاً ، فقط  قل وامضي ، وإياك أن تعبث مع طيوري أو بها . قلت : ارسمني . قال : انصرف . جلست ، قلت : ارسمني وسأدفع لك ، أنا على عجلة من أمري ، أتيت في مهمة عاجلة ، لاتكن على عجلة من رسمك ؛ فتصورني مسخاً مثلك ... ثم ضحكت . نظر إليًّ  بغضب ولكي يتخلص مني فقط أخذ يرسمني بخطوط متسارعة !
كان الأزرق هو اللون الذي يطغى على اللوحة ، أعني هذا العبث الذي صنعه بي أو صنعته بنفسي ، لا أدري !
نصف مسخ أنا ، أخطبوط ملعون ، عقرب سوداء ، عجل أحمق ، دجاجة مصابة بالرًّمد ، دودة فقدت حاسة الشم فنحل جسمها من الأسى ! ، قوعاً يتدحرج في كركرة مزعجة وبغباء أيضاً ؛ حتى ينشق نصفين فيصمت . ابتعت عفرتي هذا من ولد شوتال الفقر بعشرين جنيهاً كاملة ، ياللجنون !!وكل طيوره الثملة أو التي قد قتل النعاس مقلتيها بستين جنيها أخرى . ظنني مجنونا ً أو معتوهاً من الذين تُلقي بهم الصحراء إلى جوف النيل ، دون أن يعلم  أنني رحمة بالجدة وبه أُخلصه من هذا كل هذا الطي ن الذي يملؤ كونه وكوبه وكل ما كان حوله وكل ما كلن فيه .
عاد فرحاً إلى الجدة وهويلوح بالمال في وجهها ويقفذ أمام أبيه ، ويتقافذ اتجاه أمه كذلك الحيوان المفلس الذي يسمونه الكنقر ! . يصرخ : زوجوني ... زوجوني..... زوجوني ، ويقفذ ... ويقفذ ؛ فيسقط البنطال عن الخصر تماماً .
حامت الجدّة كل النواحي دون أن   تجد من تقبل بولد شوتال الفقر زوجا لها ، المبروكة ، بت أم جر ، نفرين ، ست البنات ، النايلة ، كُراع الخريف ، الوطيفة ، أم سيل ، وكل " العوين " لم يقبلن به ورفضنه رفضا باتا لا يقبل الفصال حتى أنَّ الجدة عندما ذهبت حين أعيتها الحيل لخطبة فرع الشام التي كان يضرب بها المثل في القبح رفضته هي أيضاً وقالت : إنه يا أبي كذلك الرجل الذي ركب على الحمار ثم أخذ يسأل عنه هنا وهناك ! وكان حظه ، بل قدره أن قبلت به إحدى نساء الصحراء اللاتي لم يعتاد الناس هنا مصاهرتهم في أغلب الأحيان لتلك القسوة التي اشتهرن بها على طول النيل . أقسمت الجدة أن هذه الزوجة ستأدب ولد شوتال الفقر كما لم تفعل هي أو أمه .. كان الجميع في انتظار الخريف ليزوجوه ؛ وعندما هطل المطر و هطل وهطل ، كان لديه ابن وابنة والكثير من الطين ينتظر أصابعه وإزميله ولعنات الزوجة والجدة والأم والعفاريت وصخب الشمس .

No comments:

Post a Comment